"الهيكل الثالث" والتشاؤم الإسرائيلي من العقد الثامن
استعمال مصطلح "الهيكل الثالث" كناية عن إسرائيل لا يقصد منه فقط منح شرعية دينية – تاريخية للمشروع الصهيوني، عبر الإيحاء بوجود تتابع تاريخي لليهود في أرض فلسطين، بل أيضًا التذكير بما يسمونّه "خراب الهيكلين الأوّل والثاني"، والتحذير من مصير مشابه لدولة اليهود الثالثة على حد تعبيرهم.
في هذا السياق، يجيء كتاب الصحافي الإسرائيلي آري شبيط، الذي صدر مؤخرًا بعنوان "الهيكل الثالث - من شعب إلى أسباط إلى شعب"، اسمًا على مسمّىً، كونه يحاكي هذا الهاجس التاريخي من خلال الإشارة إلى مجموعة الأخطار الخارجية والداخلية التي تهدد إسرائيل، وربّما تنذر بفنائها، وذلك من باب التحذير وقرع نواقيس الخطر بغية النجاة من مصير "الممالك" السابقة.
فرغم القوة غير المسبوقة التي تحظى بها إسرائيل، كما يقول شبيط، وذلك في غياب جيوش عربية تشكل تهديدا عليها، وعدم وجود أي عامل إقليمي منافس لها في المجال التكنولوجي إلى جانب تمتعها بتفوق استخباري ساحق وقدرات تجسس "سايبيري" تماثل دولة عظمى وسلاح جو "يسرح ويمرح" على امتداد مساحة الشرق الأوسط، إلا أنّ هذه "الدولة الصغيرة" محاطة بطوق يضم مئات آلاف القذائف وآلاف الصواريخ التي لا تستطيع "القبة الحديدية" - العصا السحرية التصدي لها بالكامل.
هذا إضافة إلى ما تقوم به إيران من تطوير لصواريخ دقيقة وصواريخ موجهة بالليزر وطائرات مسيرة هجومية من شأنها إحداث أضرار هائلة لمواقع إستراتيجية في إسرائيل، بينما يقوم "حزب الله" في الشمال و"حماس" في الجنوب ببناء خطوط حربية منظّمة، تمكّنهما من إدارة معارك غير متوازنة موجعة ضد القوة العظمى الإسرائيلية.
في ضوء ذلك، تصبح قصة النجاح الأمنية الإسرائيلية سطحية في وقت يتضرّم تحت حاضر الأرض المستقرة سيل بركاني من شأنه أن يؤدي، كما يقول الكاتب، إلى انفجار بركاني خطير وقاتل في المستقبل، ما يجعل إسرائيل تقف في السنين والعقود القادمة أمام تهديد إستراتيجي غير مسبوق يتمثّل في الحرب التقليدية القادمة.
ويرى شبيط أنّ هذه الحرب قد تؤدي إلى إمطار مركز إسرائيل بآلاف الصواريخ وقتل آلاف المواطنين وزرع البلبلة والحرج في صفوف الجيش، ما يجعل إسرائيل - رغم انتصارها في هذه الحرب - تدفع ثمنا مخيفا من حيث المس بالروح المعنوية الوطنية وإعادة الاقتصاد الإسرائيلي عقدًا أو عقدين إلى الوراء والمس بشكل مدمر بشرعية إسرائيل الدولية، وجعلها تواجه في الربع الرابع للقرن أوضاعًا لم تشهدها منذ الربع الأول لوجودها.
أما الخطر الوجودي، برأي شبيط، فهو الخطر النووي، رغم أنّه لا يرى خشية جدية من استعمال السلاح النووي ضد إسرائيل في المستقبل المنظور، لأن ديمونة ما زالت قائمة، والغواصات موجودة والردع الإستراتيجي ساحق وشبكة الأمان الإستراتيجي ثابتة، ولكن إذا تحولت إيران في العقد الثالث أو الرابع للقرن الـ21 إلى دولة نووية، فإنّ السعودية وتركيا ومصر ستتحول إلى دول نووية، أيضًا، وتنشأ في الشرق الأوسط منظومة نووية متعددة الأقطاب، سيصبح من الصعب الحفاظ على استقرارها.
وفي الظروف الجديدة تلك من الصعب التنبؤ ماذا سيحدث، فمن الممكن جدًا أن تتجدّد الحروب التقليدية بعد توقفها لنصف قرن من الزمن، ومن الممكن جدا وقوع أزمات إقليمية على غرار أزمة الصواريخ في كوبا، أو ربما وقوع إرهاب نووي، ولكن في كل الأحوال، فإنّ إسرائيل، برأي شبيط، ستقع تحت سحابة من الرعب، ورغم أنّها ستبقى أقوى من كل أعدائها إلا أنها لن تبقى تتمتع بنفس الراحة "المملة" التي كانت تحظى بها في العقود الأخيرة.
ورغم اجتماع كل تلك الأخطار الخارجية وما تضعه من تحديات أمام استمرار بقاء إسرائيل، إلا أنّ التحديات والأخطار الداخلية لا تقل، كما هو معروف، أهمية عن الأخطار الخارجية، وقد كانت لوحدها أو باجتماعها مع أسباب خارجية، كافية في كثير من الأحيان لسقوط دول وإمبراطوريات عبر التاريخ، وهو ما ذهب شبيط إلى ابرازه في العنوان الفرعي لكتابه "من شعب إلى أسباط إلى شعب" في إشارة إلى حالة التفكك التي تسود المجتمع الإسرائيلي وتهدد كيانه.
وهو ما أتى عليه لدى معالجة تداعيات العقد الأخير من فترة حكم نتنياهو على إسرائيل. إذ حوّل اجتماع الاستقرار الإستراتيجي والاقتصادي والسياسي، كما يقول، إسرائيل إلى قوة تكنولوجية عظمى ودولة بارزة في المجتمع الدولي. فهي، من ناحية، أصبحت رائدة على مستوى العالم في مجال الهايتك، ومن ناحية ثانية تعززت شبكة علاقاتها مع قسم كبير من الدول العربية وتحوّلت إلى ما يشبه السلام الفعلي، ومن ناحية ثالثة، أصبحت الصين والهند واليابان وروسيا وليس الولايات المتحدة فقط حليفات لإسرائيل.
إلا أنّ الأغرب هو وضع شبيط لخصوبة المرأة اليهودية الإسرائيلية، التي بلغت ذروة لم تبلغها من قبل، كما يقول، بارتفاعها من 2.6 عام 1990 إلى 3.09 عام 2019 في سلة الإنجازات ومعايير التقدم الإسرائيلية، وهو معيار طالما استخدم لدمغ العرب بالتخلف، ويشيد بتحقيق إسرائيل نموًا ديمغرافيًا لا يوجد له شبيه في أي دولة متقدمة في العالم.
وإلى جانب العظمة والازدهار، تعمّقت في تلك الفترة حالة الشقاق والفرقة الداخلية، فبنى نتنياهو حكمه على موديل حكم مناحيم بيغن مطورا، عبر قيادة تمرد ضد النخب القديمة وتحويل رئيس الحكومة الراهن إلى زعيم "ثورة دائمة" ضد سلطة الماضي غير القائمة، وإعمال التفرقة والشقاق في المجتمع بغية خلق التوتر الهوياتي، الذي يعطي لحكم القائد الفرد قوته السياسية.
لهذا الغرض عمل نتنياهو، بتعبير شبيط، على صيانة وتقوية التحالف بين المجموعات السكانية الأربع، التي شعرت بالإقصاء تحت حكم حزب العمل، ولهذا الغرض أشعل مجددا التمرد الشرقي والتمرد الديني - القومي والتمرد الحريدي والتمرد الروسي، في حين أنّ العدو المشترك هو العدو القديم، ممثّلا بالأجهزة الديمقراطية غير المنتخبة التي بقيت وفية بشكل كبير لقيم إسرائيل القديمة: الإعلام، القضاء، والتكنوقراط.
أضعف نتنياهو بشكل منهجي مؤسسات الدولة وبضمنها المحاكم وحراس القانون والجيش والشرطة وانتهك مبادئ ومعايير الإدارة السليمة والديمقراطية اللبرالية القائمة بغية تعزيز موقعه كزعيم وحيد، لقد قاد تمردا عاما مناهضا لـ"الرسمية"، وحوّل جمهورية بن غوريون الإسرائيلية إلى مملكة نتنياهو.
صحيح أنّ إسرائيل عزّزت قوتها وتحولت إلى قوة عظمى سياسيا وأمنيا واقتصاديا وتكنولوجيا في عهد نتنياهو، لكنّها في المقابل دخلت في أزمة داخلية وأزمة هوية خطيرة، فقد ضعف الحلم المشترك وانفرطت "الرسمية" وتآكلت الديمقراطية، في حين توسعت الفجوات الاقتصادية الاجتماعية وارتفع غلاء المعيشة وانقسمت "الأمة" إلى أسباط، كما يقول شبيط: سبط يحارب آخر، وإخوة يحاربون إخوتهم وهوّة عميقة وخطيرة جوّفت مركز الحياة الإسرائيلي.
بقي أن نذكّر أنّ الإسرائيليين يتشاءمون من العقد الثامن الذي دخلت فيه "دولة اليهود الثالثة" التي جرى تأسيسها في فلسطين، لأن الدولتين اليهوديتين السابقتين اللتين جرى تأسيسهما في البلاد، وفق الرواية اليهودية، "مملكة داوود" و"مملكة الحشمونائيم"، لم تستطيعا تجاوز العقد الثامن من عمريهما.
المصدر: عرب 48